من “الخندق” إلى “الأنفاق”../ الكاتب / هلال بن سالم الزيدي
تانيد ميديا : من الخندق إلى الأنفاق ثمة تماثل يعيد كرامة الإنسان، ومن الخندق إلى آبار “النفط” كثير من التقاطعات والاختلافات المزدوجة، فرب خندق رفع أمة، ورب نفق أعادة الهيبة وكشفت الريبة، ورب “جباب” أورثت الجبن وأنشئت صروحا لتبلُغ الأسباب، فعلت وتعالت، إلا أنها سرعان ما انقشعت فوقعت وهوت إلى غياهب الخيانة والتآمر. فبارت سلعتها وبانت سوءاتها، لتصبح سلعة ولعبة وهبت نفسها بثمن بخس.
إن علاقة الإنسان بالأرض علاقة الفرع بأصله فهو نبت من تراب؛ فإما يكون طيبا أو خبيثا، ولظروف العيش والسعي فوجوده مرهون بما يستوعبه من خيرات فوق أديم الأرض أو مستكشفا ومتجها إلى القعر للبحث عما يعينه في الشدة والرخاء، فحتمت الظروف أن يكون حفّارا لأعماق يستقصي “النعم” أو حفّارا لنهايته باستدراك النقم، لذلك تشكلت فلسفة النبش في الأرض منذ الوهلة الأولى لبداية الصراعات والسيطرة، بدءا من “هوى النفس” مرورا بمسألة “تعبيد” البشر والسقوط في براثن الاستغلال وتكبيل الكرامة في وحل الخيانة، وليس انتهاء بانتصار الخير بعد إن ضاقت الأرض بما رَحُبت، لذلك فإن العبر في التاريخ تشير إلى أن الإنسان ديدنه التمسك بأرضه سطحا وقاعا بقدر ما أوتي من سعة وقوة، وصاحب القوة/ النفوذ هو المستحوذ الأكبر.
لكن على المسار الآخر المتجسد في العقل والمنطق، فليس كل من يمتلك القوة يكون ذكيا، أو قادرا على فرض سيطرته حتى وإن اتجه أفقيا، ومخر السبع الطباق أو اتجه إلى “الباطن” فحفر الأرض باحثا عن “كُحلٍ” يعمي البصيرة، لأن ثمة علاقة توافقية بين القوة والغباء وموت الضمير، خاصة عندما سال “سواد الكحل” على وجه الكرامة، وهذا ما تترجمه كثير من الأحداث على مر التاريخ، وها هي نراها ماثلة أمامنا في أنظمة آثرت التوريث والخلود فتمرّغت “بالمال” وفرضت القوة في الداخل ترغيبا وترهيبا فيما مالت أعناقها في الخارج ذلا وخضوعا، أما الضعف الذي تشكل من وهن على وهن على إضعاف واستهداف فقد تعمّق في الأرض ليسترجع شيء من مفردات ومفاهيم الضمير ،وشيء كثير من الكرامة والعزة، لأن أصله ثابت وفرعه في السماء.
عند الحديث عن تلك العلاقة أي: علاقة البشر بالأرض فإننا نستحضر مسار وجودنا والمألات التي برزت على الساحة ولا سيما منها علامات النصر التي تشكّلت في خضم التحزب والتآمر المعلن عالميا ضد فئة قليلة تمسّكت بأرضها وانتُهكت حقوقها، هذا الاستحضار يوقفنا برهة لاستخلاص العبر من أحداث نبشت في الذاكرة، لأنها حفرت بقوتها في واقع الأمة الإسلامية، نبدأها من توجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى حفر “الخندق” لمواجهة اليهود الذين تحزّبوا آنذاك ضد المسلمين، وما اعتراهم من تعب وجوع وضنك وكثير من الصعوبات، إلا أن المعنويات المرتبطة بالهدف هي “الفيصل” الذي قلب موازين قوة العدد والعتاد وجاء النصر المؤزر بكثير من المعجزات والإشارات التي أوحى بها الله جل وعلا إلى نبيه الكريم، وبالتالي حمل حفر “الخندق” بشارات وقراءات لمستقبل “الفئة القلية” بفتح الشام واليمن وفارس، وعلو الكرامة الإنسانية إلى مستوياتها الحقة.
إن الحفر في الأرض طولا وعرضا هي استراتيجية دفاعية سلما وحربا، وعند “الآخرين” مصدر ثراء في المنشط “دون” المكره، فهناك وعلى امتداد الصحراء ووهج رمضائها الحارقة كانت استراتيجية الحفر مبعثا آخر لأعراب أقحاح، أيقظهم شظف العيش فاندفعوا يتطاولون في “البنيان”، ليصنعوا حضارة مادية مليئة بالرفاهية المثخنة بالتنازلات والملبدة للعقل والقلب، وذلك عندما حالفتهم الظروف في حفر الأرض للبحث عن “الذهب الأسود” الذي لم يعطهم إشارات أو حتى كرامات تُهيأ لهم قوتهم المستقبلية ويستبين وضعهم بين الأمم، وإنما أوقعهم أُسارى في أحضان شائكة لمّا يستطيعوا الخروج منها، فلم يزدهم ذلك إلا ضلالا، فأمسوا محط الأطماع والاستعمار والخضوع، مقابل عروش تدار وكروش تتدلى بانكسار، فكل آبار النفط التي حفروها لم ترفع شأنهم أو تسند أبناء جلدتهم، بل مثلّت نتيجة عكسية وبها مارسوا الحصار جغرافيا واقتصاديا، وسُيّرت قافلات الهدم ضد شعب يبحث عن أمل للأمة، ويخرجها من عنق الزجاجة.
لم تستطع تلك “الآبار” بأعماقها السحيقة وثرواتها المتدفقة أن تحدث فارقا في ميزان القوى المتأرجح، كما أنها لم تواري سوءات الانحياز والتآمر على شاكلة الغراب الذي بعثه الله إلى قابيل ليواري سوءة أخيه هابيل، وإنما كانت شرارة لنار أوقدتها الدناءة والخسة، وقربانا يُقدم نظير حماية “شكلية” استنزفت الكرامة على مدار عقود من الزمان، صاحبها تكميم لأفواه الأحرار، وتجزئة المجزأ لاستحكام القبضة المتقاطرة خبثا وانبطاحا، حتى ظهرت في “مضاربها” أجيال ممسوخة لم تعرف حكمة وجودها البشري، وأخرى سئمت من ذواتها، فقررت الانتحار أو التحول بدواعي الحرية، لتُبنى ناطحات ومدن يزعم أنها أكثر ذكاء من البشر لتكون علامة كرم ومحجا يصطاف فيه الغرباء، فكان حفرهم زبدا، ذهب جُفاء على الداخل، فيما كان ثراء في الخارج.
إن الثراء الفاحش التي خلفته تلك الآبار لم يحرر “الأنظمة” من عبوديتها، ولم تستطع أن تُحيك “خرقة” تستر بها عورتها المبعثرة، حتى إنها لم تكن قادرة على “إيلاج” الخيط في “سم” الخياط، أو أن تختار بين البدائل المعطاة، لأن لها خيار واحد لا ثاني له في خضم تقاطعات سياسية واقتصادية، فهناك من “يُملي” عليها نظير ألا يفارقها نعيم “الكرسي”. حتى تحصيناتها الدفاعية وبوارجها الحربية باتت من عتاد “الموضة” العسكرية، وتوجه لضبط الداخل وتأمين الأمان الذي جبنت فيه الشجاعة، وتحوُّل تلك البوارج إلى إسناد لأعداء لم يراعوا إلاً ولا ذمة في أطفال ونساء وشيوخ عُزل.
في الوقت الذي تتخبط فيه الكرامة وتنتفي صفاتها الإنسانية، تتجه الفئة القليلة المثخنة بجراح الخذلان والتي وقعت عليها كل صنوف الإبادة والتنكيل والنسيان؛ تتجه إلى تصميم وصناعة الكرامة بمقاييس “الصحابة” فتشق الأرض أنفاقا تشع بالقوة والعزيمة، فتقتبس أنورا هندسية من ” الخندق” الذي منع “الأحزاب” من دخول المدينة المنورة من جهة الشمال، وكان تعبئة جهادية وأحد أسباب النصر، فتمُثل الأنفاق تصميما هندسيا معقدا ومصنعا لأداة الحرب بأيد برأت إلى الله، ووضعت هدفها الأسمى وهو إعادة تلك الكرامة التي تسامت بخلق القرآن، وأعلت التكبير بنية وإخلاص.
نعم إنها غزة وأنفاقها، وثبات رجالها وقوة نسائها، وبأس أطفالها. كانوا مقبرة العصر للغزاة وأذنابهم، فحفرهم لتلك الأرض درسا في قوة المبدأ الذي يتكؤون عليه، وعلامة فارقة في تأسيس كرامة تتناسب ومتطلبات هذا العصر، الذي تتغلب فيه مصالح الفرد على متطلبات الجماعة، لذلك وبعد الخزي والعار “العربي”، نفضت غزة غبار الذل والهوان وجيّشت أحرار العالم معها بأحقية مطالبها لأرضها، فسددت الرمي ضربا فوق الأعناق وفي كل بنان، فهناك أرض “الرباط” والكرامات، الأرض التي أنجبت إرادة التغيير التي على الأجيال أن يتعلموها ويتبنوها دون غيرها، لأنها المنهاج الذي سيغير خارطة السيطرة والنفوذ وبناء الاستراتيجيات ويعيد ترتيب الأولويات، فأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
إن صناعة أجيال تعشق شق الأنفاق هو الأفضل من بناء أجيال تستنشق روائح “النفط” وهي نائمة نومة “اللحود”، في دول كنا نتوقع وقوفها مع الحق، إلا أنها دفنت رأسها في رمال ملذاتها فقل حياؤها عندما نفخت مزاميرها ودفوفها، في وقت يباد فيه شعب أعزل، فيما أخرى “تآمرت” في وضح النهار وأعلنت بأنها يهودية أكثر من اليهود أنفسهم فولت وجهها ناحية الحائط فطفقت بكاء وعويلا ومكاء وتصدية، فهي تقود نفسها إلى دمار بيتها الأوهن من بيت العنكبوت، وزوالها إشارات إلى زوال الكيان الصهيوني.
يقول المفكر محمد الغزالي: “إن زوال إسرائيل قد يسبقه زوال أنظمة عربية عاشت تضحك على شعوبها، ودمار مجتمعات عربية فرضت على نفسها الوهم والوهن، قبل أن يستذلها العم والخال، وقبل أن ينال من شرفها غريب”.